فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: فقوله تعالى: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم عليه السلام؛ لأنه المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه؛ لذلك يعود السياق مرة أخرى إلى إبراهيم {وقال إني مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26] أي: منصرف عن هذا المكان؛ لأنه غير صالح لاستتباب الدعوة.
ومادة هجر وما يشتق منها تدل على ترك شيء إلى شيء آخر، لكن هجر تعني أن سبب الهجر منك وبرغبتك، إنما هاجر فيها مفاعلة مثل شارك وقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، إنما هاجر منها إلى المدينة.
وهذا يعني أنه لم يهاجر برغبته، إنما آذاه قومه واضطروه للخروج من بلده، إذن: فلهم دخل في الهجرة، وهم طرف ثان فيها.
لذلك يقول المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ** ألا تفارقهم فالراحلون همو

ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة أن يسمي نقلة رسول الله من مكة إلى المدينة هجرة من الثلاثي، ولا يقول مهاجرة؛ لأنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه، لكن هنا قال في الفعل: هاجر. وفي الاسم قال: هجرة ولم يقل مهاجرة.
وسبق أن ذكرنا أن هجرة المؤمنين الأولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب، لا دار الإيمان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وجههم إلى الحبشة بالذات قال: «لأن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد».
وكأنه صلى الله عليه وسلم بسطت له خريطة الأرض كلها، فاختار منها هذه البقعة؛ لأنه قد تبين له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته، أما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان، بدليل ما رأيناه من مواقف الأنصار مع المهاجرين.
وهنا يقول إبراهيم عليه السلام: {إني مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26] فالمكان إذن غير مقصود له، إنما وجهة ربي هي المقصودة، وإلا فلك أن تقول: كيف تهاجر إلى ربك، وربك في كل مكان هنا وهناك؟
فالمعنى: مهاجر امتثالا لأمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها؛ لأنه من الممكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بأمر رئيسك مثلا، وقد كانت لك رغبة في الانتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع؛ لأنه حقق رغبة في نفسك، فأنت- إذن- لا تذهب لأمر صدر لك، إنما لرغبة عندك.
لذلك جاء في الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
فالمعنى {إني مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26] يعني: ليس الانتقال على رغبتي وحسب هواي، إنما حسب الوجهة التي يوجهني إليها ربي. وأذكر أنه كان لهذه المسألة واقع في تاريخنا، وكنا جماعة من سبعين رجلا، وقد صدر منا أمر لا يناسب رئيسنا، فأصدر قرارا بنقلنا جميعا وشتتنا من أماكننا، فذهبنا عند التنفيذ نستعطفه عله يرجع في قراره، لكنه صمم عليه، وقال: كيف أكون رئيسا ولا أستطيع إنفاذ أمري على المرءوسين؟
فقال له أحدنا وكان جريئا: سنذهب إلى حيث شئت، لكن اعلموا أنكم لن تذهبوا بنا إلى مكان ليس فيه الله.
وكانت هذه كلمة الحق التي هزت الرجل، وأعادت إليه صوابه، فالحق له صولة، وفعلا سارت الأمور كما نريد، وتنازل الرئيس عن قراره.
فمعنى: {مهاجر إلى ربي} [العنكبوت: 26] أن ربي هو الذي يوجهني، وهو سبحانه في كل مكان. يؤيد ذلك قوله سبحانه: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] وكأن الحق سبحانه يقول لنا: اعلموا أنني ما وجهتكم في صلاتكم إلى الكعبة إلا لأؤكد هذا المعنى: لأنك تتجه إليها من أي مكان كنت، ومن أية جهة فحيثما توجهت فهي قبلتك.
ثم يقول: {إنه هو العزيز الحكيم} [العنكبوت: 26] اختار الخليل إبراهيم- عليه السلام- من صفات ربه {العزيز} [العنكبوت: 26] أي: الذي لا يغلب وهو يغلب. وهذه الصفة تناسب ما كان من محاولة إحراقه، وكأنه يقول للقوم: أنا ذاهب إلى حضن من لا يغلب.
و{الحكيم} [العنكبوت: 26] أي: في تصرفاته، فلابد أنه سبحانه سينقلني إلى مكان يناسب دعوتي، وأناس يستحقون هذه الدعوة بما لديهم من آذان صاغية للحق، وقلوب وأفئدة متشوقة إليه، وتنتظر كلمة الحق التي أعرضتم أنتم عنها.
ثم يقول الحق سبحانه: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب}.
وجاء وقت الجزاء لينال إبراهيم- عليه السلام- من ربه جزاء صبره على الابتلاء، وثباته على الإيمان، ألم يقل لجبريل لما جاءه يعرض عليه المساعدة وهو في طريقه إلى النار: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم: أما إليك فلا. لذلك يجازيه ربه، ويخرق له النواميس، ويواليه بالنعم والآلاء، حتى مدحه سبحانه بقوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} [النحل: 120].
وكان عليه السلام رجلا خاملا في القوم، بدليل قولهم عنه لما حطم أصنامهم: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} [الأنبياء: 60] فهو غير مشهور بينهم، مهمل الذكر، لا يعرفه أحد، فلما والى الله والاه قال: لأجعلنك خليل الله وشيخ المرسلين ولأجرين ذكرك، بعد أن كنت مغمورا على كل لسان، وها نحن نذكره عليه السلام في التشهد في كل صلاة.
واقرأ قول إبراهيم في دعائه لربه؛ ليؤكد هذا المعنى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء: 84] وكأنه يقول: يا رب إن قومي يستقلونني، فاجعل لي ذكرا عندك.
ومعلوم أن للتناسل والتكاثر نواميس، فلما أن أنجبت السيدة هاجر إسماعيل- عليه السلام- غضبت الحرة سارة: كيف تنجب هاجر وهي الأمة وتتميز عليها، لكن كيف السبيل إلى الإنجاب وسنها تسعون سنة، وسن إبراهيم حينئذ مائة؟
قانون الطبيعة ونواميس الخلق تقول لا إنجاب في هذه السن، لكن سأخرق لك القانون، وأجعلك تنجب هبة من عندي {ووهبنا له إسحاق} [العنكبوت: 27] ثم {ويعقوب} [العنكبوت: 27].
وفي آية أخرى قال: {ويعقوب نافلة} [الأنبياء: 72].
أي: زيادة، لأنه صبر على ذبح إسماعيل، فقال له ربه: ارفع يدك فقد أديت ما عليك، ونجحت في الامتحان، فسوف أفديه لك، بل وأهبك أخا له، وسأعطيك من ذريته يعقوب.
وسأجعلهم فضلا عن ذلك رسلا {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} [العنكبوت: 27] لذلك حين نستقريء موكب الأنبياء نجد جمهرتهم من ذرية إبراهيم عليه السلام كل من جاء بعده من ذريته.
والذرية المذكورة هنا يراد بها إسحق ويعقوب، وهما الموهبان من سارة، أما إسماعيل فجاء بالقانون العام الطبيعي الذي يشترك فيه إبراهيم وغيره.
وكأن الحق- سبحانه وتعالى- في هذه المسألة يدلل على طلاقة القدرة بأسباب تظهر فيها قدرة المسبب، فيقول لإبراهيم: إن كان قومك قد كفروا بك ولم يؤمنوا، فسأهبك ذرية ليست مؤمنة مهدية فحسب، إنما هادية للناس جميعا.
وإذا كانت ذرية إسحق ويعقوب قد أخذت أربعة آلاف سنة من موكب النبوات، فقد جاء من ذرية إسماعيل خاتم الأنبياء وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم، وستظل رسالته باقية خالدة إلى يوم القيامة، فالرسل من ذرية إسحق كانوا متفرقين في الأمم، ولهم أزمنة محددة، أما رسالة محمد فعامة للزمان وللمكان، لا معقب له برسول بعده إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: {والكتاب} [العنكبوت: 27] أي: الكتب التي نزلت على الأنبياء من ذريته، وهي: القرآن والإنجيل والتوراة والزبور.
ثم يقول سبحانه: {وآتيناه أجره في الدنيا} [العنكبوت: 27] قالوا: إنه كان خامل الذكر فنبغ شأنه وعلا ذكره، وكان فقيرا، فأغناه الله حتى حدث المحدثون عنه في السير أنه كان يملك من الماشية ما يسأم الإنسان أن يعدها، وكان له من كلاب الحراسة اثنا عشر كلبا. إلخ وهذا أجره في الدنيا فقط.
{وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [العنكبوت: 27] يعني: لن نقول له أذهبت طيباتك في حياتك الدنيا، بل هو في الآخرة من الصالحين، وهذا متمنى الأنبياء. إذن: فأجره في الدنيا لم ينقص من أجره في الآخرة.
لكن، لماذا وصف الله نبيه إبراهيم في الآخرة بأنه من الصالحين؟ قالوا: لأن إبراهيم أثر عنه ثلاث كلمات يسميها المتصيدون للأخطاء، ثلاث كذبات أو ذنوب: الأولى قوله لملك مصر لما سأله عن سارة قال: أختي، والثانية لما قال لقومه حينما دعوه للخروج معهم لعيدهم: إني سقيم. والثالثة قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] أي: عندما حطم الأصنام.
ويقول هؤلاء المتصيدون: إنها أقوال منافية لعصمة الأنبياء. لكن ما قولكم إن كان صاحب الأمر والحكم شهد له بالصلاح في الآخرة؟
ثم إن المتأمل في هذه الأقوال يجدها من قبيل المعاريض التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» فقوله عن سارة: إنها أختي، هي فعلا أخته في الإيمان، وربما لو قال زوجتي لقتله الملك ليتزوجها هو.
أما قوله: {إني سقيم} [الصافات: 89] فهو اعتذار عن مشهد كافر لا ينبغي للمؤمن حضوره، كما أن السقم يكون للبدن، ويكون للقلب فيحتمل أن يكون قصده سقيم القلب لما يراه من كفر القوم.
وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] أراد به إظهار الحجة وإقامة الدليل على بطلان عبادة الأصنام، فأراد أن ينطقهم هم بما يريد أن يقوله؛ ليقررهم بأنها أصنام لا تضر ولا تنفع ولا تتحرك. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله سبحانه وتعالى: {الم أحسب الناس}.
يعني: أيظن الناس {أن يتركوا} يعني: أن يمهلوا {أحسب الناس أن} أي صدقنا {وهم لا يفتنون} يعني: لا يبتلون قال في رواية الكلبي لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون} [الأنعام: 65] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل ما بقاء أمتي على هذا» فقال له جبريل عليه السلام: فادع الله لأمتك، فقام فتوضأ، ثم صلى ركعتين، ثم سأل ربه عز وجل أن لا يبعث عليهم العذاب. قال: فنزل جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله عز وجل قد أجار أمتك من خصلتين، وألزمهم خصلتين، قال: فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم صلى، فأحسن الصلاة، ثم سأل ربه عز وجل لأمته أن لا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فنزل جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد قد سمع الله عز وجل مقالتك، فإنه يقول ولقد أرسلنا رسلا من قبلك، فصدقهم مصدقون، وكذبهم مكذبون، ثم لم يمنعنا أن نبتليهم بعد قبض أنبيائهم ببلاء يعرف فيه الصادق من الكاذب، ثم نزل قوله عز وجل: {الم أحسب الناس} الآية.
قال مقاتل في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أول قتيل قتل من المسلمين يوم بدر، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة، فجزع أبواه وامرأته، وقد كان الله بين للمسلمين أنه لابد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله عز وجل فنزل {الم أحسب الناس أن يتركوا}.
وقال بعضهم: لما أصيب المسلمون يوم أحد، وكانت الكرة عليهم، فعيرهم اليهود والنصارى والمشركون، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية.
ويقال: نزلت في عباس بن أبي ربيعة، وفي نفر معه أخذهم المشركون وعذبوهم على الإسلام، فنزلت هذه الآية.
ويقال: نزلت في جمع المسلمين.
ومعناه: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا، ثم لا يفرض عليهم الفرائض.
وقال الزجاج: هذا اللفظ لفظ الاستخبار، والمعنى تقرير وتوبيخ، معنى أحسب الناس أن يقنع منهم؛ بأن يقولوا: آمنا فقط، ولا يختبروا ويقال: أن لا يعذبوا في الدنيا.
ثم قال عز وجل: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} يعني: اختبرنا الذين كانوا من قبل هذه الأمة وابتليناهم ببلايا {فليعلمن الله الذين صدقوا} يعني: إنما يبتليهم ليبين الذين صدقوا من المؤمنين في إيمانهم {وليعلمن الكاذبين} منهم فشكوا عند البلاء.
ويقال: معناه ليبين صدق الصادق، وكذب الكاذب بوقوع صدقه، ووقوع كذبه.
وقال القتبي: يعني: ليميزن الله الذين صدقوا، ويميز الكاذبين.
ثم قال: {أم حسب الذين يعملون السيئات} يعني: الشرك والمعاصي {أن يسبقونا} يعني: أن يفوتونا.
ويقال: يعجزونا.
ويقال: يهربوا منا فلا نجازيهم {ساء ما يحكمون} يعني: بئس ما يقضوا لأنفسهم.
قال الكلبي: نزلت في عتبة وشيبة والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر، فبارزهم من المسلمين علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، فنزل في شأن مبارزي المسلمين {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} يعني: الآخرة لكائن {وهو السميع العليم} السميع لمقالتهم العليم بهم، وبأعمالهم.
وقوله عز وجل: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} يعني: علي بن أبي طالب وصاحباه رضي الله عنهم {إن الله لغنى عن العالمين} يعني: عن نصرة العالمين يوم بدر.
ويقال: نزلت في جميع المسلمين من كان يرجو لقاء الله، أي: يخاف الآخرة ويقال: يخاف الموت، فيستعد للآخرة والموت بالعمل الصالح {فإن أجل الله لآت} ويعني: كائن {وهو السميع} لدعائهم، {العليم} بأمر الخلق، ومن جاهد يعني: عمل الخيرات، فإنما يجاهد لنفسه يعني: ثوابه لنفسه إن الله لغني عن العالمين.
يعني: عن أعمالهم، فإنما ثوابهم لأنفسهم.
ثم قال عز وجل: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم} أي: لنمحون عنهم {سيئاتهم} يعني: ذنوبهم ويقال: {لنجزينهم}.